تحالفات حماس- بين الضرورة السياسية والحكمة الأخلاقية.

المؤلف: محمد المختار الشنقيطي08.15.2025
تحالفات حماس- بين الضرورة السياسية والحكمة الأخلاقية.

تتجدد النقاشات بشكل دوري في العالم العربي والإسلامي حول حركة المقاومة الإسلامية "حماس" وممارساتها السياسية، خاصة فيما يتعلق بأخلاقية بعض تحالفاتها السياسية والعسكرية، أو كيفية إدارتها لهذه التحالفات والتعبير عنها. تتصاعد وتيرة هذا الجدل والنقاش يوماً بعد يوم، مما يشير إلى أن المجال لا يزال واسعاً للخوض فيه. هذه المقالة هي مشاركة في هذا الحوار، من زاوية علم الأخلاق السياسية ومفهوم الذكاء السياقي. أود أن أبدأ بتوضيح أولي وهو أنني لست من أولئك المثاليين наивными الذين يجهلون تعقيدات السياسة ويتجاهلون متغيرات الزمان والمكان والإمكان، ولا من أولئك الذين يركزون على أخطاء المظلوم وينسون خطايا الظالم. لذلك، أتفهم علاقات حركة "حماس" مع داعميها في أوقات الشدة، وهي تعاني، مثلما يعاني الشعب الفلسطيني بأكمله، من ظلم الأقارب وقسوة الأبعدين. النقد الذي سأقدمه في هذه المقالة يتركز على طبيعة هذه العلاقات، وحدود الضرورة فيها، وحكمتها السياسية، وليس على العلاقات نفسها من حيث المبدأ.

لقد قسمت هذه المقالة إلى جزءين: إطار نظري وتطبيق عملي. الإطار النظري يمثل تلخيصاً لبعض الأسس النظرية التي سعيت جاهداً لنقلها إلى طلابي على مدار عقد كامل من تدريس مادتي "الأخلاق السياسية" و"الأخلاق في العلاقات الدولية". هذه الأسس جديرة بالتذكير بها في هذا السياق، بالنظر إلى أن حركة "حماس" هي حركة سياسية ذات مرجعية إسلامية. من بين هذه الأسس أن القانون الأخلاقي الإسلامي هو قانون شامل، لا يعرف الازدواجية ولا التناقض، ولكنه في الوقت نفسه مرن، فهو مزيج من المثالية والواقعية. هو مثالي في مصدره الإلهي ورفضه لأي انتقائية في التطبيق، وواقعي في اعترافه بتعقيد الواقع الحسي وتزاحم المبادئ فيه أحياناً. من هنا، ضمن الشرع الإسلامي منهجاً للترجيح عند تزاحم المبادئ أو تعارض المصالح، وأقر اختيار الأهم فالأهم، وقَبِل ارتكاب أخف الضررين وتجاوز الشر الأصغر، ولم يقف مكتوف الأيدي متمسكاً بمثالية حالمة منفصلة عن الواقع الصلب الذي لا يرحم.

أيضاً، فإن فلسفة الأخلاق الإسلامية هي فلسفة تركيبية ذات أبعاد متعددة، كما أوضح ذلك عدد من فلاسفة الأخلاق المسلمين المعاصرين، منهم الشيخ محمد عبد الله دراز (1894-1958) والدكتور إسماعيل الفاروقي (1921-1986). هذه الفلسفة مبدئية في عمومها واطرادها، دون الوقوع في الشكلية التي وقع فيها منظّر الأخلاق المبدئية الفيلسوف الألماني إيمانويل كانت (1724-1804). وهي مصلحية في غاياتها ومقاصدها، ولكن دون الانزلاق إلى الانتهازية والنفعية المحضة التي انتهى إليها الفيلسوف الإنجليزي جيريمي بنتام (1748-1832). كما أنها توجب الوفاء بالعقود، ولكن دون جعل التعاقد في ذاته معياراً للخير والشر، كما فعل الفيلسوف الكندي ديفيد غوثيي (1932- ….) صاحب كتاب "الأخلاق بالتوافق". وهي إنسانية لا تسلب المؤمن حقه في الاجتهاد تأويلاً وتطبيقاً، كما فعل بعض المفكرين المسيحيين القائلين بنظرية "الإلزام الإلهي"، من أمثال الأميركي روبرت آدامز (1937- ….).

من هذا المنظور الإسلامي الواقعي للأخلاق السياسية، يجب التمييز بين المنظّر السياسي والممارِس السياسي. مهمة المنظر السياسي هي التمسك بالمبدأ، وبناء الحلم، وإقناع الناس بإمكانية تحقيقه. لا يحق له التنازل عن المبادئ، ولا هو مضطر لذلك عادة، لأنه يتحرك ضمن أطر نظرية مجردة. أما وظيفة الممارِس السياسي فهي تحقيق ما يمكن تحقيقه من المبادئ والقيم في واقع الناس، ضمن معادلات الزمان والمكان والإمكان. لهذا السبب، فإن التنظير السياسي أسهل بكثير من الممارسة السياسية، والمعارضة السياسية أسهل بكثير من قيادة الدول.

إن الممارِس السياسي الرشيد هو الذي ينجح في المواءمة بين المبادئ والمصالح، فلا يفرط في أي منهما، وبذلك يكون مبدئياً وبراغماتياً في آن واحد، على الرغم من صعوبة ذلك. لذا، إنصافاً للممارسين السياسيين، ومنهم قادة "حماس"، يجب على من يحاكم الفعل السياسي محاكمة أخلاقية أن يأخذ في الاعتبار تزاحم القيم الأخلاقية، وصعوبة الجمع بينها في سياق واحد، وتضارب المصالح السياسية، وصعوبة تحقيقها في وقت واحد. هذا باب واسع من أبواب الفقه السياسي الإسلامي، منحه مرونة وحيوية، وقدرة على مواكبة الحياة واستيعاب تعقيداتها وحركتها الدائبة.

لقد تطور الجدل الأخلاقي حول الفعل السياسي تطوراً كبيراً في الفكر الغربي المعاصر. فمن المفكرين الغربيين من لا يزال متمسكاً بالانتهازية السياسية، ويرى أن الغاية تبرر الوسيلة، اقتداءً بتراث نيكولو مكيافيلي (1469-1527). لكن مكيافيلي، الذي يسير هؤلاء على نهجه، فشل فشلاً ذريعاً في تحقيق التوفيق بين المبادئ والمصالح، وهو توفيق ضروري لكل سياسة حكيمة. كما فشل في التمييز بين مصلحة الدولة ومصلحة الحاكم، ولهذا أحب الطغاة كتابه "الأمير" وأدمنوا قراءته في كل عصر، ومن هؤلاء أدولف هتلر (1889-1945) وفلاديمير لينين (1870-1924) وبينيتو موسوليني (1883-1945) الذي كتب رسالة الدكتوراه عن مكيافيلي، وكان ملهماً له في سياساته الفاشية.

قام الفيلسوف الأميركي مايكل وولزر بإحياء المكيافيلية السياسية القديمة من خلال نظرية "الأيدي القذرة"، التي يرى من خلالها أن "السياسي يحتاج إلى ارتكاب الشر من أجل خدمة الخير"، وأن "من السهل أن تتلطخ الأيدي في السياسة، ولا ضير في ذلك في غالب الأحيان"! ولا يمنح مايكل والزر حياة كل البشر القيمة ذاتها من التقديس والاحترام، فهو منحاز لديانته اليهودية وجنسيته الأميركية. ولهذا برر القصف الأميركي للمدن اليابانية بالسلاح النووي في الحرب العالمية الثانية، وذهب إلى أن اليهود كان عليهم اللجوء إلى الإرهاب لحماية أنفسهم من الألمان. أما تحيزه ضد العرب فهو أكبر وأوضح؛ ولهذا يقول عن الغزو الأميركي للعراق "إنها حرب غير عادلة ولكن يجب الانتصار فيها"!.

في المقابل، تناول مفكرون غربيون آخرون المعضلة الأخلاقية في السياسة برحابة إنسانية، وسعوا إلى إيجاد حلول سياسية ضمن معايير الأخلاق. فقد ميز عالم الاجتماع الألماني ماكس فيبر (1864-1920) في محاضرة له بعنوان "مهنة رجل السياسة والتزامه" بين نمطين من الأخلاق السياسية: "أخلاق الاقتناع" و"أخلاق المسؤولية". "أخلاق الاقتناع" فردية بطبيعتها، ولا تهتم كثيراً بالنتائج، وقد تكون مناسبة للسلوك الشخصي، حيث تكون نتائج الفعل محصورة على فاعله غالباً.

بينما "أخلاق المسؤولية" هي بطبيعتها أخلاق جماعية وتشاركية، وتُوزن بنتائجها وآثارها على الآخرين. قد يكون من حق الفرد، بل من واجبه أحياناً، أن يضحي بنفسه في سبيل قضية يؤمن بها، ولكن ليس من حقه التضحية بالآخرين في سبيل القضية ذاتها، دون اقتناع منهم وتراض معهم. يتميز الممارس السياسي بأن ثمار أفعاله تتجاوز شخصه، ولها آثار كبيرة على غيره، فهو بحاجة إلى الالتزام بأخلاق المسؤولية، بغض النظر عن اقتناعه الشخصي.

في كتاب للمفكر السياسي الأميركي "جوزيف ناي" صدر عام 2020 بعنوان "هل للأخلاق اعتبار؟" (?Do Morals Matter) توجد دعوة قيّمة إلى الاستخدام المتكامل لثلاثة مستويات من المحاكمة الأخلاقية للفعل السياسي، وهي:

  • النيات: يجب النظر في دوافع القرار السياسي وغاياته، هل هي منفعة أنانية، أم مصلحة عامة، أم مزيج من هذه وتلك كما هو الحال غالباً. إذا كانت النيات سيئة منذ البداية، تنتفي الصفة الأخلاقية عن الفعل السياسي، بغض النظر عن ثماره.
  • الوسائل: هل هي مشروعة؟ لا تكفي سلامة المقاصد، ولا نُبل الغايات المرجوة، إذا كانت الوسائل غير مشروعة. هنا يرفض جوزيف ناي، بشكل ضمني على الأقل، المكيافيلية الكلاسيكية وامتداداتها المعاصرة، مثل نظرية "الأيدي القذرة" التي قال بها مايكل وولزر.
  • المآلات: هل سيؤدي القرار السياسي إلى النتائج المرجوة، أم أنه سعي أعمى لا يراعي العواقب ولا ينظر في المآلات؟ قد تكون نتائجه عكسية لما يحيط به من سوء التقدير والتدبير، على الرغم من شرعيته المبدئية وما قد يصاحبه من مقاصد نبيلة ونوايا حسنة.

مما يساعد الممارس السياسي على تحقيق العمل السياسي الأخلاقي هو التسلح بما أسماه جوزيف ناي "الذكاء السياقي" (contextual intelligence)، وهو يعني بهذا المصطلح القدرة على أخذ جميع العوامل المؤثرة في القرار في الاعتبار، وعدم إغفال أي أثر من الآثار التي قد تنتج عن القرار. هنا تأتي أهمية الخبرة المتراكمة، والحساسية الاجتماعية، والتشاور الواسع، والبعد عن الارتجال، والاستعانة بأهل الدراية قبل اتخاذ أي قرار سياسي ذي شأن.

استناداً إلى هذا الإطار النظري، نتساءل الآن: هل نجحت قيادة "حماس" في الالتزام بالقيم السياسية الإسلامية في تحالفاتها مع إيران وامتداداتها العربية؟ وهل تحلى قادتها بالذكاء السياقي وهم ينسجون تحالفاتهم ويديرونها سياسياً وإعلامياً؟

للإجابة على هذا السؤال، يجب أن نأخذ في الحسبان الظروف التي تواجهها حركات التحرر في العالم بشكل عام. غالباً ما تعاني حركات التحرر من اختلال في موازين القوى لصالح أعدائها المحتلين، وتبحث عن ثغرات في النظام الدولي لتجد منفذاً لأزمتها وأزمة شعوبها. كما يجب على حركات التحرر، في أغلب الأحيان، التركيز على قضيتها الخاصة، وعدم تحمل العبء العام للأمة، لتضييق جبهة الأعداء والحفاظ على قدر من حرية المناورة التي تتيحها التناقضات بين الأطراف الإقليمية والدولية المتصارعة.

تحتاج جميع حركات التحرر إلى مظلة إستراتيجية خارجية لجهادها التحرري، فلا توجد حركة تحررية منزهة عن الدعم الخارجي أو مستغنية عن التحالفات السياسية. دعوة البعض حركة "حماس" إلى قطع علاقاتها بأهم مصدر خارجي لدعمها في أوقات الشدة هي مزيج من المزايدات والجدال العقيم والحماقة السياسية. ليس من العدل أن نطالب "حماس" بالاستغناء عن الدعم الإيراني في ظل الحصار المفروض عليها دولياً وإقليمياً، بل الواجب أن نطالب الشعوب والأنظمة العربية بدعمها، بما يغنيها عن الدعم الإيراني وما يترتب عليه من سلبيات.

تعتبر الثورة الجزائرية أعظم تجربة جهادية معاصرة، وقد كان الاتحاد السوفياتي من أكبر داعميها، على الرغم من احتلاله لشعوب مسلمة في ذلك الوقت. لم يكن بوسع المجاهدين الجزائريين رفض الدعم السوفياتي نصرةً لتلك الشعوب المسلمة التي تعيش تحت نير الاحتلال الشيوعي الملحد. لم يكن المجاهدون الجزائريون آنذاك مسؤولين عن طغيان السوفيات، وليس مجاهدو "حماس" مسؤولين اليوم عن فظائع إيران وامتداداتها الطائفية. ولكن بشرط أن تبتعد الحركة عن التشريع الصريح أو الضمني لتلك الفظائع، وأن تجتهد في الحفاظ على نقاء جهادها من التلوث بتلك الممارسات المشينة.

هذا من حيث المبدأ في قضية بناء التحالفات السياسية والعسكرية. أما من حيث إدارة هذه التحالفات، فيبدو لي أن مكاسب "حماس" في هذا السياق مكاسب مشوبة. كانت "حماس" حتى وقت قريب مدرسة نموذجية في حسن التقدير والجمع بين السياسة والجهاد، بتوازن فكري وتخطيط إستراتيجي وحكمة سياسية، وهو ما لم تنجح فيه معظم الحركات الإسلامية الأخرى. لكن السنوات الأخيرة شهدت تراجعاً ملحوظاً في هذا المستوى من النضج. وربما تكون أهم المآخذ الوجيهة في هذا المضمار هي:

  • أولاً: لم تنجح بعض قيادات "حماس" في التفريق بين ظروف الاضطرار التي تتفهمها جماهير الأمة بوجدانها الفطري وفراستها الصائبة، وظروف الاختيار التي تشبه التمادي في الاستهتار بدماء شعوب شقيقة ومشاعرها. تجاوزت قيادات في "حماس" حدود العلاقات الاضطرارية مع إيران وحزب الله اللبناني، وهما حليفان قويان ومؤثران ولديهما الكثير مما يستطيعان تقديمه للحركة وجهادها ضد الاحتلال الغاصب، إلى التوسع في علاقات اختيارية مع أطراف أخرى لا قيمة لها سياسياً أو عسكرياً، مثل نظام بشار الأسد في سوريا وحركة الحوثيين في اليمن. الهمس الأخير عن نية استعادة العلاقة مع نظام بشار الأسد والإيحاءات الإعلامية الإيجابية تجاه الحوثيين تدل على خلل في الأولويات الشرعية والسياسية.
  • ثانياً: يبدو الخطاب السياسي والإعلامي الصادر عن حركة "حماس" في السنوات الأخيرة غير منضبط أحياناً وغير مصوغ بمستوى الإحكام اللازم. كثرت فيه العاطفية المفرطة والفلتات اللفظية والمبالغات الخطابية. هذا أمر مؤسف من حركة تدرك التنوع والتناقض الكبير بين المتلقين لخطابها، من دول وجماعات وشعوب بينها خلافات عميقة تصل إلى الخوض في الدماء. زاد من سوء هذا الوضع أن بعض من لهم "أيادٍ بيضاء" على حركة "حماس" لهم "أيادٍ سوداء" على شعوب شقيقة من أقرب الناس رحماً بالشعب الفلسطيني، بل إن بعضهم لهم "أياد حمراء" ملطخة بدماء مئات الألوف من أحرار هذه الشعوب وأبرارها.
  • ثالثاً: يبدو أن بعض قادة "حماس" وناشطيها على مواقع التواصل الاجتماعي قد أعجبتهم "خبرتهم" بالسياسة والحرب، كما أعجبت المسلمين "كثرتهم" يوم حنين، فظهر في نبرتهم شيء من الوصاية والأستاذية على اختيارات شعوب شقيقة وعلى ثوراتها المستمرة ضد الاستبداد والطغيان، مما ولد إحساساً مريراً لدى قطاعات من هذه الشعوب بأنها تُعامل بدونية، وبأن قضاياها العادلة أصبحت مجرد "وسائل ثانوية" لصالح "قضية مركزية" مفترضة. قد تكون لهذا الإحساس بالمرارة آثار سيئة للغاية على القضية الفلسطينية. حين تتكسر النصال على النصال في جسد الأمة بأسرها، لا تكون لديها قضية مركزية واحدة، بل قضايا مركزية ومحورية عديدة. يحسن بأهل كل قضية عادلة في هذه الحالة أن يتعاملوا مع القضايا العادلة الأخرى بإنصاف وتفهم، و"المسلمون تتكافأ دماؤهم، وهم يد على من سواهم"، كما في الحديث النبوي الصحيح.
  • رابعاً: يبدو أن بعض قادة "حماس" فقدوا حاسة التوازن الضروري بين ثلاثية الالتزام المبدئي والتخطيط الإستراتيجي والتكتيك العملي. هذا التوازن حيوي في كل عمل سياسي رشيد. الذكاء التكتيكي المتجرد من المبدئية الأخلاقية ومن النظرة الإستراتيجية ذات الأفق الواسع غالباً ما ينتهي بكوارث على المدى البعيد، على الرغم مما قد يترتب عليه من مكاسب ظرفية وجزئية. تستطيع "حماس" أن تستخلص العبرة المريرة هنا من سيطرة الحركة الإسلامية في السودان خلال حكمها، وتوسع حكومة حزب العدالة والتنمية المغربي في براغماتيتها، حتى تورطت في التطبيع المخزي، وكلاهما انتهى بكارثة أخلاقية وسياسية. إذا لم تتعامل قيادة "حماس" مع هذه المزالق بعيون مفتوحة، فقد تخسر رأسمالها المعنوي وعمقها الشعبي، وتلك خسارة لا تعوضها أي تكتيكات عملية، مهما تكن بارعة وذكية.

من منظور التاريخ السياسي والجغرافيا السياسية، لا توجد منطقة أهم لتحرير القدس والأقصى على المدى البعيد من منطقة هلال شرق المتوسط، التي تشمل مصر وبلاد الشام (بمعناها التاريخي الواسع) والعراق والأناضول. هذه المنطقة هي العمق الجغرافي لفلسطين، وشعوبها هي العمق الديمغرافي لشعب فلسطين. لم يختلف هذا العمق في أثناء الاحتلال الصهيوني المعاصر عن العمق الديمغرافي الذي كان في أثناء الاحتلال الصليبي القديم. تشكلت جبهات التحرير ضد الصليبيين في الماضي من خمس جبهات: جبهة الاستنزاف في الأناضول، وجبهة الإمداد في الموصل، وجبهة المواجهة في حلب، وجبهة الحسم في دمشق، وجبهة التصفية في القاهرة.

من هذه الجبهات تجمعت جيوش صلاح الدين الأيوبي، فجاءت من 13 مدينة، منها، بالتعريف الوطني الحديث، 3 مدن تركية (ديار بكر وعينتاب وأورفة)، و4 مدن سورية (حلب وحماة ودمشق وحمص)، ومدينتان عراقيتان (أربيل والموصل)، ومدينتان مصريتان (القاهرة والسويس)، ومدينتان أردنيتان (الكرك وعمان). تقع كل هذه المدن اليوم ضمن هلال شرق المتوسط. هذا الهلال بجغرافيته وديمغرافيته هو البيئة الإستراتيجية الحاضنة لفلسطين وأهلها، وهي البيئة الفاعلة فيما يحدث في القدس، والمنفعلة به أكثر من غيرها، في الماضي والحاضر والمستقبل. إذا كان البعض منا لا يدرك ذلك، فإن الصهاينة يدركونه. تكفي مراجعة كتب المؤرخين الإسرائيليين المتخصصين في تاريخ الحروب الصليبية لفهم ذلك، ومن هؤلاء المؤرخين يوشع براور وبنيامين كدار وروني ألانبلوم.

إن القدس هي جوهر قلب العالم العربي والإسلامي، وتقع عند ملتقى القارات والبحار والمضائق في هلال شرق المتوسط. تحرير القدس مرتبط ارتباطاً عضوياً بحالة التحرر والبناء في هذه المنطقة (كما كان الحال دائماً). لا تحرير للقدس من دون تحرر الشعوب المحيطة بها في هلال شرق المتوسط، ولا تحرر لهذه الشعوب من دون تحرير القدس، فالعلاقة بين الاثنين علاقة جدلية، هكذا يقول منطق التاريخ والجغرافيا. أما التلاقي بين "حماس" وإيران اليوم فهو تلاق عابر لا يعبر عن العمق الجغرافي والإستراتيجي الحقيقي لفلسطين على المدى البعيد، مهما تكن ثماره العاجلة.

أما شعارات الوحدة والأخوة الإسلامية التي ترفعها إيران، فقد اختبرتها جماهير الأمة الإسلامية وخبرتها على مدى أربعة عقود، فأصبحت هذه الشعارات الجوفاء تذكرنا بقول الشاعر التركي الراحل سزائي قره كوج (1933-2021): "لا يكفي أن تقول لي نحن إخوة، بل يجب أن تبين لي هل أنت هابيل أم قابيل". من قصر النظر الإستراتيجي أن تفرط "حماس" أو أي قوة فلسطينية أخرى في شعوب هلال شرق المتوسط سعياً وراء مكاسب عابرة أو منافع عاجلة مع إيران وامتداداتها ومليشياتها الدموية.

إن تآكل رصيد "حزب الله" اللبناني في قلوب الأمة كلها، باستثناء جيوب طائفية مضمونة، وانهيار صورة "حسن نصر الله" من بطل في كل أرجاء العالم العربي والإسلامي إلى أمير حرب طائفي محلي، يجب أن يكون درساً للأحبة في "حماس"، ليضبطوا خطابهم ويحكموا دبلوماسيتهم ويتجنبوا الشطحات الإعلامية والسياسية، مع احتفاظهم بمنهجهم العملي وتعاونهم مع الجميع في رسالتهم المقدسة نحو تحرير القدس والأقصى، وهي رسالة الجميع ومسؤوليتهم. يستلزم هذا الأمر الكثير من الحكمة والبصيرة والاقتصار على حدود الضرورة ومراعاة الشعوب الشقيقة التي ذبحتها إيران وامتداداتها على طول خارطة المشرق العربي. أتمنى أن يفهم بعض قادة "حماس" المتحمسين حدود البراغماتية السياسية، وأن لا يضيعوا العمق الإستراتيجي في لقاء عابر مع إيران وامتداداتها على قارعة الطريق في لحظة تاريخية معتمة.

سياسة الخصوصية

© 2025 جميع الحقوق محفوظة